هل نحن فعلا مرضى نفسيون؟

في مشهد من فيلم beautiful mind، الذي جسد فيه الممثل russell crowe شخصية عالم الرياضيات john forbes nash، الذي نال جائزة نوبل للرياضيات وكان يعاني من مرض السكيزوفرينيا، سيقول لصديقه: “ما فائدة أن تكون مجنونا إن لم تكن مرحا”. ربط الجنون بالمرح وحس الدعابة نجدها كذلك في ثقافتنا، فنقول عن الشخص الذي يأتي بنكتة مضحكة أو بسلوك غريب يثير الضحك والفكاهة إنه “مسطي”، “مفروح”. كذلك نجد في مخيالنا الاجتماعي أن من يقول الحقيقة هو الصبي أو الأحمق. “ما يقول الحق غير الصبي أو الحمق”. كما أن الجنون مرتبط كذلك بالعبقرية. فغالبا ما نقول إن ذلك الشخص الذكي، جننته الرياضيات. فهناك حد فاصل بين العبقرية والجنون يتمثل في شعرة رقيقة يمكن في أي لحظة أن تزول حتى ينبثق الجنون من العبقرية.

لا شعورنا الجمعي، يحمل بين طياته هذه النظرة إلى هذا العالم الغريب، عالم الجنون واللاعقل. حيث نبحث عن العقل باللاعقل، ونعزو الحكمة للجنون. إلا أنه في المقابل نجد المجتمع لا يتقبل هذا المرض ويصم المجنون بأقدح العبارات، تصل إلى حد العنف الجسدي والرمزي. هذا التناقض بين الاعتراف والرفض، نستشفه من صورة مغايرة للصورة الأولى التي تشكلت في مخيالنا الاجتماعي ولاشعورنا الجمعي؛ والتي قوامها أن المجنون هو شخص مسه الجن وبالتالي تحركه الأرواح الشريرة، والمعاملة التي كان يتلقاها المرضى النفسيون من الحجز والربط بالسلاسل في بويا عمر لخير دليل. من جانب آخر، الشخص المجنون فهو فاقد للأهلية، بالتالي من الناحية الفقهية والقانونية يباح الحجر عليه. وهنا العداء المتجه نحو المجنون هو في الحقيقة عدوانية متجهة نحو الذات، تتنكر في ثوب قلق لا شعوري من أن يصيب الشخص في المستقبل ما أصاب المجنون من مصادرة لأمواله وأملاكه.

هذا التناقض بين الاعتراف والرفض على مستوى ثقافتنا الشعبية، نجده كذلك في السيكولوجيا رغم أنه لا يصل إلى مستوى التناقض، لكن يبقى الخلط وعدم الوضوح في معايير السواء واللاسواء هو السائد بين علماء النفس بتعدد مشاربهم والنظريات السيكولوجية التي يؤسسون عليها نظرتهم للسلوك السوي والسلوك الشاذ. ” يتفق المختصون في المجال بأن الحدود بين العادي والمرضي تبقى غامضة، فالسواء واللاسواء مفهومان نسبيان في مراحل العمر المختلفة، في الأزمنة المختلفة، وفي الثقافات المختلفة” (حافري زهية غنية – محاضرات في علم النفس المرضي، 2016).

من المعاير والمحكات التي تحدد السلوك السوي والسلوك المرضي في علم النفس المرضي نجد:

“المعيار الإحصائي: إحصائيا الشذوذ هو ما ينحرف كميا عن المتوسط حسب منحنى Gauss أو المنحى الجرسي أو التوزيع الاعتدالي، واللاسوي هو المنحرف عن هذا المتوسط بالزيادة أو النقصان.

المعيار الاجتماعي الثقافي: هنا يتخذ من القيم والنظم الاجتماعية والثقافية أساسا للحكم، وعلى هذا الأساس يعتبر كل ما لا يتفق مع ما يتوقعه المجتمع من أساليب سلوكية غير سوي. فما يعتبره بعض المجتمعات سواء ينظر إليه في مجتمع آخر على أنه نوع من الشذوذ، وما يعتبر عاديا في ثقافة قد لا يعتبر عاديا في ثقافة أخرى.

المعيار الذاتي: وهنا يتخذ الفرد من ذاته اطارا مرجعيا، وكذا نظرة الافراد كإطار مرجعي يرجع اليه في الحكم على السلوك بالسواء او عدمه من خلال انسجامه مع أفكارهم وآرائهم الذاتية. ” (حافري زهية غنية، محاضرات في علم النفس المرضي، 2016).

اختلاف المعاير المحددة للسلوك السوي باختلاف المناهج العلمية والنظريات السيكولوجية المؤطرة للبحث في هذا الموضوع، واختلاف الثقافات والمجتمعات، واختلاف النظرة الذاتية للإنسان العاقل. تضع النسبة التي جاء بها التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بكون 48.9 في المائة من المغاربة مرضى نفسيون موضع تأمل ونقاش.

إجمالا هناك معياران محددان للصحة النفسية للإنسان، التكيف والإنتاجية، التكيف يعني التأقلم مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع الذي ينتمي إليه الشخص. وهنا يذكر مصطفى حجازي في كتابه الصحة النفسية أن “مفهوم التكيف هو أمريكي بامتياز. فكثير جدا، من العلماء تحدثوا عن التكيف الذي أصبح مفهوما مركزيا في التحليل النفسي وسيكولوجية الأنا (هارتمان بعد نزوحه إلى أمريكا)، إنه تعبير عن المشروع الأمريكي الكبير في صهر الجماعات المهاجرة في بيئة العالم الجديد ومعاييره ونظام قيمه. الطموح الأمريكي تمثل عندها في غاية “الأنا الظاهرة التي تمثله أرض الميعاد والفرص الأمريكية”. ويضيف “فما يعتبر في مجتمع ما في فترة ما سويا قد يتحول إلى عكسه. والشواهد على ذلك كثيرة. كذلك فإن لكل ثقافة نسبيتها وبالتالي معاييرها الخاصة في السواء واللاسواء. السواء هو إذن، إلى حد ما تركيب ثقافي يرتكز على التوافق الاجتماعي أو المعايير الاجتماعية. وهي معايير متغيرة طالما أن الثقافات تتباين، وأن نفس المجتمع متحول في اتجاه أو آخر تبعا لحركة التاريخ”. وهنا تطرح علامة استفهام حول الأمريكي المتكيف مع مجتمع جعل من المال إلها والاستهلاك دينا ونهب ثروات الأمم تحت ذريعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فلسفة؛ إنسانا سويا؟

مثلما تتحول المجتمعات طبقا لحركة التاريخ فالمفاهيم تتطور كذلك تبعا لتطور البنى التحتية للمجتمع. ميشيل فوكو بمنهجه الأركيولوجي الذي ساهم من خلاله بالتنقيب عن المفاهيم وتشكلها عبر التاريخ. أفرد كتابا قيما حول تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي الأوروبي حيث سيبين كيف تطور مفهوم الجنون في أوروبا، حيث انتقل من اعتباره جريمة وأن المجنون تسكنه الأرواح الشريرة ومجرم يتم حجزه وسجنه مع باقي المجرمين الأصحاء إلى دعوة الدولة العائلة إلى التكفل بالمجنون في إطار التكافل الطبيعي الإنساني والاجتماعي، إلى الاعتراف بالمجنون كمريض نفسي وبالتالي تشييد المارستان. ففي المرحلة التاريخية التي كانت البورجوازية في طور التشكل تم التمييز لأول مرة بين الفقراء الأصحاء وبين الفقراء المرضى. “هذا التمييز قديم جدا، ولكنه ظل هشا، وغامضا- ولم يكن له معنى إلا باعتباره مبدأ للتصنيف داخل الحجز. واكتشف هذا التمييز من جديد في القرن 18، ونظر إليه نظرة جدية. فالاختلاف بين الفقير المعافى والفقير المريض ليس اختلافا في البؤس، بل اختلاف في طبيعة البئيس، فالفقير الذي يستطيع العمل يعد عنصرا إيجابيا في المجتمع، حتى وإن لم يستثمر: إن سوء الحظ يجب أن ينظر إليه باعتباره أداة، أي اعتبار قوةّ ذلك أنه لا ينزع القوة، ويمكن استعمال قواه لصالح الدولة، ولصالح الفرد ذاته الذي يجب أن نفرض عليه استعمال هذه القوة. المريض على عكس من ذلك، نقطة ميتة، إنه يشكل عنصرا “مستسلما وراكدا وسلبيا، إنه لا يعيش داخل المجتمع إلا بصفته مستهلكا: إن البؤس ثقل ثمنه، ويمكن أن تربطه بِآلة، يمكن أن يشغلها، أما المرض فهو كتلة لا يمكن الإمساك بها، فنحن لا نستطيع سوى تحملها أو تركها تسقط، إنه يعوق دائما ولا يقدم العون أبدا. يجب إذن الفصل، داخل المقولة القديمة للكرم، بين ما كان مختلطا، العنصر الإيجابي للفقر وعبء المرض”. (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ميشيل فوكو، 2006)
ما قطعته أوروبا خلال قرون طويلة للاعتراف بالمرض النفسي، قطعناه في بضع سنوات، فإغلاق بويا عمر ومنع الحجز والربط بالسلاسل مع الوزير الحسين الوردي سنة 2015 والاعتراف بالمرض النفسي، والترويج لثقافة نفسية في المجتمع عن طريق تناسل التقارير عن الحالة النفسية للمغاربة خلال السنوات الأخيرة، مرتبط بتشكل البرجوازية المغربية الجديدة التي في أمس الحاجة لليد العاملة لتحريك الدورة الاقتصادية واستمرارية سلاسل الإنتاج ومراكمة الأرباح والثروات. وبالتالي فالأمر لا يخرج عن إطار شراء قوة العمل المعافاة التي لا تعاني من أي مرض جسدي أو خلل نفسي. وهنا يصير معيار الإنتاجية محددا للصحة النفسية للمغاربة.

الإنسان المغربي ليس مريضا نفسيا، الإنسان المغربي فقير، يعيش التهميش والحرمان من أبسط حقوقه، التعليم والصحة والشغل. ففي تقرير مؤشر الفقر المتعدد العالمي 2022، نجد أن فقر التعليم هو أكثر ما يعاني منه المغاربة، إذ تتجاوز نسبة الحرمان إلى 46 في المائة. أما فقر الصحة فيتجاوز مستواه 23 في المائة، بينما يصل الحرمان من متطلبات العيش 28 في المائة، ونتيجة لذلك تقيم الأمم المتحدة مؤشر شدة الحرمان في المغرب بـ 42 في المائة. وهو مرتفع للغاية.

الإنسان المغربي يعيش توترا مزمنا وقلق المستقبل، غير مطمئن على مستقبله لا يعرف ماذا تحمل له الأيام القادمة من مفاجِآت. في تقريرها الأخير حول مؤشر ثقة الأسر المغربية. أفادت المندوبية السامية للتخطيط بأن معدل الأسر التي صرحت بتدهور مستوى المعيشة خلال 12 شهرا السابقة، في الفصل الثالث من سنة 2022، بلغ 81.5 في المائة. كما أن 49.8 في المائة تتوقع تدهور تطور المعيشة خلال 12 شهرا المقبلة. كما توقعت 87.5 في المائة ارتفاع مستوى البطالة خلال 12 شهرا المقبلة. و52.9 في المائة توقعت تدهور تطور وضعيتها المالية خلال 12 شهرا المقبلة.

الإنسان المغربي تعيس، يحتل المرتبة 100 على مؤشر السعادة العالمي لسنة 2022. يخاف أن يضحك كثيرا، “الله يخرج هاد الضحك على خير”. بينما نجد في المرتبة الأولى فلندا، هذه الدولة التي حققت السعادة لمواطنيها عن طريق إصلاح جذري للتعليم وتبني فلسفة جديدة في التدريس والتلقين.

الإنسان المغربي ينتمي إلى مجتمع يعيش مخاضا انتقاليا عسيرا، من مجتمع محافظ إلى مجتمع “مسخ” لا هو بالحداثي ولا هو بالتقليدي ولا ما بعد حداثي. منزلة بين المنزلتين، لأن الحداثة تتطلب تعليما في المستوى، وتنويرا يعلي من قيمة مفكريه. (الجابري والمنجرة والمرنيسي وعبد الكبير الخطيبي وجسوس وطه عبد الرحمان وأركون…..). تقطع مع نظام التفاهة المعولم. وتنمية مستدامة محورها الإنسان، تهتم بجميع جوانبه المادية والروحية والصحية والثقافية والفنية.

أمام هذا المشهد السريالي لا يسعني إلا أن أهمس في أذن مجموعة ناس الغيوان وأقول لهم، مازالت مهمومة منذ ذلك الزمن وهذه المرة بإحصائيات رسمية من مؤسسات رسمية.

مهمومة يا خيي مهمومة

مهمومة هاد الدنيا مهمومة

فيها النفوس ولات مضيومة

وبنادم ولا عباد اللومة

المسكين فهمومو ساير يلالي

عايم فالفقايص عومة محمومة.

#هل #نحن #فعلا #مرضى #نفسيون

زر الذهاب إلى الأعلى