
الأحد 16 أكتوبر 2022 – 12:01
عملت قوى الاستعمار على وضع الأقاليم الجنوبية خارج مُعاهدة الحماية، ذلك أن الاستعمار الإسباني والفرنسي حَزَّ الصحراءَ من المغرب قبل احتلال باقي أجزائِه، لذلك عند الحماية لم يَتم اعتبارُ نفوذ المغرب التاريخي على كُلِّ مجالِه، ومن ثمة فإن وثيقةَ الاستقلال ألغَتْ مُعاهَدةَ الحماية على أساس النفوذ الترابي المُدْرَج في المُعاهَدة فقط. والثابتُ أن العَلم المغربي كان يُرفَع في الجنوب الشرقي من التُّراب المغربي كجزء طبيعي من الوطن حتى أواخر الأربعينات، قبل أن تَضُمَّ فرنسا إقليمَ تندوف إلى التدبير الإداري الفعلي لمُستعمَرة الجزائر على الرغم من أنه كان مُقتَطَعا قبل الحماية. لذلك عندما طرحتْ فرنسا بزعامة جنرالها دوغول مُقترَحَ الاستفتاء لتقرير مصير المُستعمرات الفرنسية وتَخيِيرِها بين الانفصال عن فرنسا أو الاستقلال مع شرط البقاء تحت الارتباط الفرنسي، حينَها بشكلٍ طبيعي وشرعي هَبَّ السلطانُ المغربي والحركةُ الوطنية لرفض إدخال موريتانيا ضِمن هذا المُقترَح على اعتبار كَلَّ المجال امتدادا طبيعيا وتاريخيا للتراب المغربي. في ذلك الوقت استقطبتْ فرنسا ولد داداه، ومَنَحَتْهُ عضويةَ البرلمان الفرنسي مُمَثِّلا لمُقاطعة موريتانيا، ووظّفَتْه ضدَّ استمرار انتماء موريتانيا لمجالها الترابي التاريخي كجزءٍ من المغرب. ونظرا للأفُق المغربي المُنفتح وأواصر التآخي المغربي الموريتاني سرعان ما تَمَّ تصحيحُ العلاقات من خلال شهادة الجارة موريتانيا رسميا بمغربيةِ الصحراء أمام المُنتَظَم الدولي.
من الازدواجية الصارخة أن فرنسا عندما كانت تحتلُّ إقليمَ تندوف لم تكن تَعتبِرُه تابِعًا لشعبٍ صحراوي أو أمّةٍ صحراوية لها العناصرُ المُشَكِّلة للدولة، لا هي ولا الجزائر، بل كانت فرنسا تحتلُّ الإقليمَ مُعتبرةً إياه جُزءًا من مستعمرَتِها الجزائر بعد أن اقتطعَتْه من التراب المغربي، برغم أنها لم تَظُمَّهُ إداريا إلا أواخرَ الأربعينيات كما سبق ذِكرُه، وذلك لأسباب اقتصادية واستراتيجيةِ مَحْضة لا لسببٍ آخر، بينما كانت إسبانيا تحتلُّ المناطقَ الجنوبية الأخرى باعتبارها أرضا مغربية مُحتَلّة، ولم تكن هناك أيضا أي دعاوى لدولةٍ أو طرفٍ ثالث في هذا الصراع. وهو ما يُفَسِّرُ نُزولَ جيش التحرير إلى الجنوب المغربي وتنظيم عمليات المقاومة المُسلّحة ضد القوات الفرنسية ولاحقا ضد القوات الإسبانية لاستكمال تحرير الأقاليم الجنوبية مثل طرفاية، الساقية الحمراء، سيدي إفني…، في تلك الفترة لم تكن هناك على الإطلاق أيُّ مَطالب أو دعاوى أو أصوات تتحدّثُ عن الشعب الصحراوي، كما لم تكن هناك أي رغبة أو دعوة في استقلال دولة صحراوية، فهل يَتشكل شعبٌ وأمّةٌ ودولةٌ في 20 سنة، أي منذ استقلال المغرب سنة 1956 إلى تاريخ ظهور المَزاعم الانفصالية سنة 1976!!، إذ بسُرعة الكواليس استفاقت الدولةُ المَزعُومة لتَجد لها مُمَثِّلين وسفارات في بعض عواصم العالم، لم يكن خافيا أن وراءَها أموالُ الجزائر أساسا باعتبارها الراعي الجغرافي والنفسي الرسمي بإيعازٍ من المُستعمِر السابق الفرنسي والإسباني، وسرعان ما رفعت البوليساريو من وثيرة الهجمات العسكرية على موريتانيا بما فيها تحطيم القصر الرئاسي، ثم على المغرب، مدعومةً بالعَتاد والجيش الجزائري في ما سُمِّي حرب الاستنزاف، وهو ما دعا الرئيسَ الجزائري هواري بومدين إلى التصريح العلني بأن “الصحراء جزءٌ من منطقة أمن الجزائر”، ولم يكن ذلك إلا حماسةً تحت تأثير حُمّى التنظيمات الثورية.
عندما رَفع المغربُ مسألةَ الأقاليم الجنوبية إلى المُنتظَم الدولي في إطار لجنةِ تصفيةِ الاستعمار وفْق الشرعية التاريخية، ظَلَّتْ إسبانيا رافِضَةً هذا الاحتكام تُعَرْقِلُه ليَظلَّ مُعَلَّقاً حتى سنة 1974 عندما تم اكتشافُ ثروة الفوسفاط بمنطقة بوكراع، وبدأ الحديثُ عن “الأطراف المعنية” ليَظهر معها “مشكل الصحراء” المُفتَعَل. عندها فقط دفعتْ إسبانيا في اتجاه حَلِّ تقرير المصير الذي تَنْتَهِجُهُ الأممُ المتحدة، وذلك بهدف استِنْبات دولةٍ مُصْطَنَعة خاضِعة لها، وبدأت كواليسُ الاتفاق الإسباني الجزائري على الاستغلال المُشترَك لتلك المُقَدَّرات الطبيعية. في سياقِ هذه الأطماع تم استيعابُ حركة البوليساريو وإيواؤُها في منطقة تندوف، وطَلع من باطن الفراغ التاريخي والزمني شعبٌ صحراوي صنَعه الخيالُ الأجنبي وهوسُ الجزائر بمنفذٍ بحري على المحيط الأطلسي لتسهيل المُبادَلات الاقتصادية. كانت المُعادلةُ الديموغرافية في تلك الأقاليم قد شهدتْ تغييرًا هائلا بنُزوح الآلاف من السُّكان إلى المنطقة الشمالية هَرَبا من مُلاحَقات القوات الفرنسية بعد عمليات جيش التحرير لاسترجاع تلك الأقاليم، مُقابل وجودٍ مَهيبٍ للجُنود الإسبان في المنطقة، وهو ما يعني القبول باستفتاءٍ على أساس قواعد ديموغرافية مَلغُومة ومُعطَيات مُزَوَّرة. كانت دُفوعات إسبانيا أن تلك المناطق لم تكُن مأهولةً أو تابِعة لنفوذِ أي دولة، فاستعمرَتْها، بالتالي فهي لا تَقع تحت قانون تصفية الاستعمار. والحالُ هذه، فأين كان الشعبُ الصحراوي المزعومُ ما دامت تلك أرض خلاء غير مأهولة؟ ولماذا كان جيشُ التحرير يَخُوضُ تلك المَعارك في الأقاليم الجنوبية، هل لأجل الفراغ التاريخي والأرض اليباب!!. لمُواجهةِ خُطَّة الاستفتاء على أساس الوضع الديموغرافي المُتَغَيِّر نَقل النبوغُ المغربي الملفَّ إلى محكمة العدل الدولية عبر مسلك الأمم المتّحدة لتحديد إن كانت تلك الأرضُ مأهولةً تابعة للنفوذ المغربي عند احتلالها من طرف إسبانيا، أم إنها كانت أرضًا خلاء.
ممّا يؤكد حَقَّ المغرب في تُرابه، هو فعلُ المقاومة الوطنية للمغاربة لحماية تُرابهم منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي حتى قبل توقيع مُعاهدة الحماية، بمعنى منذ بدأت فرنسا وإسبانيا الاحتلالَ المُبكّر لأجزاءٍ من الأراضي المغربية وضَمّها إلى المستعمرات الأخرى، من ذلك اقتطاعُ مناطق تندوف، بشار، القنادسة… وضَمِّها للمُستعمرة الجزائرية، واقتطاع شنقيط / موريتانيا وضمّها إلى السنغال. أما إقليمُ السودان فكان تابعا للنفوذ التاريخي المغربي منذ عهد السلطان المنصور السعدي أوائل القرن السادس عشر، وظل باشواتُ المخزن المغربي هم القائمون بالحكم هناك حتى سنة 1893 عندما تم احتلالُ المنطقة من طرف القوات الفرنسية. وعلى مدى هذه الحقبة التاريخية كانت الحدودُ المادية والرمزية للمغرب مُمتَدَّة إلى النيجر وما وراء نهر السنغال، وللأدلة التاريخية على ذلك يَكْفينا استحضارُ البيعة؛ الخُطَب الدينية باسم سلاطين المغرب؛ الطُّرُقُ والفِرَقُ الصوفية والمذهبية؛ علاوةً على خَطِّ التجارة، ولم يكن من مُنافِسٍ للمغرب هناك سوى التوسُّع الأجنبي، في مقدمته الأطماعُ الفرنسية، لا شعبٌ صحراوي ولا أي كيان آخر. وبعد نفي المغفور له السلطان محمد الخامس، فإن أصداءَ الحركة الوطنية كانت داخل موريتانيا والأقاليم الجنوبية مثلما كانت في مختلف ربوع المملكة، وهي الأحداثُ والوقائعُ التي يَحفل بها الأرشيفُ الفرنسي والإسباني والتقارير البريطانية. كما أن الوفود الجنوبية والموريتانية، على رأسها وفدُ حرمة ولد بابانا، قد تَتالتْ على العاصمة الرباط لتهنئةِ السلطان محمد الخامس بعد عودته واستقلال المغرب لتجديد البيعة وطَلَبِ الدعم لتأسيس جيش تحريرِ موريتانيا في إطار استكمال التحرير وهو ما تَبَنَّتْهُ الحركةُ الوطنية واستجاب له الملكُ.
بعد تداوُل الملف في لاهاي سنة 1975 اتضَح موقفُ الجزائر العَلني مُنْحازةً إلى الجانب الإسباني مُؤدِّية شهادةَ زور لصالح المُستعمر وضِدَّ الشقيق التوأم، وكأن تاريخ الاستلاب العربي لن يَتوقَّف. وفي ندوة باريس، جَهرت البوليساريو لأول مرة بمطلب الانفصال وتأسيس دولةٍ مُستقلة، وهو ما كان رَدَّ فعلٍ لشبابٍ مغاربة جامعِيين هم أبناءُ المُقاومين وأعضاء جيش التحرير في الأقاليم الصحراوية، نادوا بضرُورةِ مُواصلة التحرير الوطني المُسلَّح ضد القوات الإسبانية، فتمّتْ مُحاصرَتُهم من طرف عناصر في السلطات المغربية لتقديراتٍ مُعَيَّنة، من هناك فَرَّ ذلك النَّفَرُ من الشباب المغاربة ليَتلَقَّفَهم نظامُ معمّر القذافي باعتبارهم ثُوارا ضد الاستعمار، فكان تمويلُهُم وانتقالُهُم للجزائر بمنطقة تندوف استعدادًا لمُواجهةِ إسبانيا، حينها صدر قرارُ فرانكوا باستعداد إسبانيا للتنازُل عن تلك المنطقة لصالح البوليساريو الذين بين ليلة وضُحاها حَوّلُوا بنادقَهم صَوْبَ الوطن!!. نُلاحظ كيف أن قوى الاستعمار الفرنسي والإسباني تكالبتْ على الوحدة الترابية للمغرب في احتضان دعاوى ومُقَرَّرات هؤلاء الشباب المغاربة وتَوجِيهِهم ضدَّ مصالح وطنهم من الخارج والداخل.
بعد إرسال المبعوثين ولجان تَقصّي الحقائق، أَقَرَّتِ المحكمةُ أن المنطقةَ كانت بالفعل مأهولةً وأنَّ القبائل الصحراوية كانت مُرتبِطة بعَقد البيعة مع سلاطين المغرب، لكن دون سيادةٍ تُرابية مغربية، ممّا يُبرِّر في نظرها رجاحَةَ / حَلَّ تقرير المصير، وبما أن المُنتظَم الدولي أقرَّ بالبيعة، فقد تَفَتَّقَتْ عبقريةُ تنظيم المسيرة الخضراء نحو الأقاليم المُبايِعة، وهو ما اضطرَّ إسبانيا إلى الاعتراف وإرجاع بعض المناطق للنفوذ المغربي، وهنا يَبْهُتُ ادعاؤُها السابق.
إن الصحراء كانت دائما مُعطى الهوية التاريخية في المغرب، وهي المُكَوِّنُ الأكثرُ تجسيدا وتأثيرا في مساره العام خاصة السياسي والسيادي، من هنا يتأكد أن مُقترَح الحكم الذاتي يَكتسي قُوَّتَه وحِجِّيَته من التجربة التاريخية الواقعية، حيث كان السُّلطان المغربي دائما يُعَيِّنُ مُمَثِّلا له من أهل الصحراء يقوم بتنظيم الحياة هناك وفق الخصوصيات والأعراف في نوعٍ من اللامركزية الإدارية وحرية التصرُّف كالدفاع عن المجال، تنظيم الضرائب، الاستتْباب الأمني بين القبائل، وذلك ضمن النفوذ الترابي المغربي الذي تُنَظِّمُه مراسيمُ البيعة والانتماء الواحد.
#محطات #من #قضية #الصحراء #المغربية