الشباب والتكوين المهني نموذجا
التنمية كمفهوم شامل عرف حضورا قويا في البرامج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، وزاد حضورا مع العهد الجديد كمدخل أساس ومحور كل تغيير منشود، وقد صاحب عملية التنمية مع العهد الجديد إطلاق أوراش كبرى تروم إعطاء المواطن المكانة اللائقة وضمان الحد الأدنى من الكرامة التي كان يؤمن بها العاهل المغربي منذ توليه عرش أسلافه المنعمين، حيث تم إطلاق ورش الإنصاف والمصالحة، وسياسة القرب والمفهوم الجديد للسلطة وتقرير الخمسينية، وإطلاق ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
كل تلكم الأوراش خلال عشرينية حكم الملك محمد السادس أدت إلى اختراق عميق للمجتمع المغربي وأبانت عن نجاعة فائقة في الوقوف على مكامن القوة والضعف والفرص التي يمكن استثمارها لتقوية البنية المجتمعية للدولة المغربية؛ حيث كان العنصر البشري هو نقطة التلاقي والتقاطع في جميع السياسات العمومية والبرامج التي تم اعتمادها، وخصوصا الشباب الذي يشكل حسب آخر الاحصائيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، 6 ملايين شاب أقل من 24 سنة، مما يشكل ثروة بشرية هائلة.
وقد وقف الملك محمد السادس على تلك التحديات التي تواجه الشباب المغربي في خطب عديدة، لكن التحول المفصلي بين مرحلتين أساسيتين في العهد الجديد والانتقال من مفهوم التنمية إلى تثمين الرأسمال البشري الذي كان خطاب ثورة الملك والشعب وعيد الشباب لسنة 2018 محطة إطلاق المفهوم الجديد لتثمين الرأسمال البشري والدعوة إلى بلورة النموذج التنموي الجديد الذي تطرق إليه العاهل المغربي في خطب عديدة، ثم إطلاق المرحلة الثالثة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي عمادها نفس المعنى والمبنى. وشخص جلالة الملك محمد السادس نصره الله في المقتطف الآتي وضعية الثروة الحقيقة؛ حيث قال: “… فلا يمكن أن نطلب من شاب القيام بدوره وبواجبه دون تمكينه من الفرص والمؤهلات اللازمة لذلك. علينا أن نقدم له أشياء ملموسة في التعليم والشغل والصحة وغير ذلك. ولكن قبل كل شيء، يجب أن نفتح أمامه باب الثقة والأمل في المستقبل …”.
وانتقل الملك محمد السادس في الخطاب نفسه إلى إعطاء حل عملي وتوجيهات مباشرة للحكومة والسلطات العمومية والمنتخبة من خلال وضع التكوين المهني تحت مجهر الإصلاح وإطلاق مرحلة جديدة لتثمين الرأسمال البشري؛ حيث قال جلالته: “ورغم المجهودات المبذولة، والأوراش الاقتصادية والبرامج الاجتماعية المفتوحة، فإن النتائج المحققة تبقى دون طموحنا في هذا المجال. وهو ما يدفعنا، في سياق نفس الروح والتوجه الذي حددناه في خطاب العرش، إلى إثارة الانتباه مجددا، وبكل استعجال، إلى إشكالية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقتها بمنظومة التربية والتكوين”.
وبهذا تم فتح ورش مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل من خلال تعيين إدارة جديدة تروم الوقوف على الإصلاحات الكبرى كورش استراتيجي، وترأس الملك محمد السادس يوم فاتح أكتوبر 2018 جلسة عمل خصصت لتأهيل عرض التكوين المهني وتنويع وتثمين المهن وتحديث المناهج البيداغوجية.
ويندرج هذا الاجتماع في سياق تنفيذ الأولويات والتدابير المحددة من طرف جلالة الملك، لاسيما في خطابي العرش وذكرى 20 غشت، ويعكس العناية الملكية السامية الثابتة بقطاع التكوين المهني باعتباره رافعة استراتيجية، ومسارا واعدا لتهييئ الشباب لولوج الشغل والاندماج المهني.
وبالفعل، فقد كان جلالة الملك قد أثار الانتباه مجددا، في خطابه السامي لـ20 غشت الماضي، حول قضية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقة مع إشكالية الملاءمة بين التكوين والشغل.
وخلال هذا الاجتماع، أخذ جلالة الملك، حفظه الله، علما بأولى المقترحات والتدابير التي يتعين اتخاذها من طرف القطاعات المعنية، المتعلقة بتنفيذ التوجيهات الملكية السامية. ويتعلق الأمر، على الخصوص، بإعادة هيكلة شعب التكوين المهني، وإحداث جيل جديد من مراكز تكوين وتأهيل الشباب، وإقرار مجلس التوجيه المبكر نحو الشُّعب المهنية، وتطوير التكوين بالتناوب، وتعلم اللغات، وكذا النهوض بدعم إحداث المقاولات من طرف الشباب في مجالات تخصصاتهم.
ومنذ ذلك اليوم فتح مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل ورشا شاملا تمخض عنه إطلاق جيل جديد من مؤسسات التكوين المهني أطلق عليها “مدن المهن والكفاءات”؛ حيث تم إطلاق ورش بكل جهة من جهات المملكة وبلغت نسبة الاشغال في عدد منها 100٪ (العيون، الناظور، أكادير) وما بين 70٪ و90 ٪ في باقي الجهات، وستعتمد على آلية تشاركية في التدبير من خلال الشراكة بين المكتب ومجالس الجهات والقطاع الخاص، يروم صياغة احتياجات السوق من كفاءات وتتبعها وتوفير الإمكانيات البشرية واللوجيستيكية اللازمة لمواكبة سوق الشغل حسب خريطة جهوية مندمجة.
ومن بين ثمار هاته الرؤية الملكية السامية التي أكدت بالملموس النظرة الثاقبة للعاهل المغربي في استشراف آليات إدماج أفضل للشباب المغربي وتثمين الرأسمال البشري، هو التحول الجذري الذي عرفته منظومة التكوين المهني من خلال جاذبية الاستقطاب وجعل التكوين المهني محركا أساسيا لدورة التشغيل ومساهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ فالهندسة الجديدة التي اعتمدها التكوين المهني والتي أبانت عن علو كعب الإدارة العامة والأطر التابعة لها وانكباب الأطر الإدارية والتكوينية جهويا على التنزيل الأمثل، كان لها بالغ الأثر؛ حيث استطاع مكتب التكوين المهني أن يكون حاضرا وبقوة خلال الجائحة من خلال استمرارية التكوين عن بعد وتطوير منصات وموارد رقمية دائمة للمتدربين وازدياد الطلب على الخريجين من أجل الإدماج سواء من القطاع العام أو الخاص، ثم أخيرا وليس آخرا الإقبال الشديد هاته السنة على التسجيل في شعب التكوين المهني الذي قبل عشر سنوات كان في المنظور الشبابي الشعبي اختيارا للفاشلين دراسيا والمنقطعين والمطرودين، إلا أنه مع الإصلاحات المتتالية وهاته السنة خصوصا عرف “هجرة” غير مسبوقة للمتفوقين وأصحاب المعدلات العليا؛ حيث في بعض اللوائح تجد معدلات الباكالوريا 16 وأكثر من مختلف مسالك التعليم، مما رفع من عتبة الانتقاء وجعل التنافس على أشده في بعض الشُّعب، مع استمرار استقبال الشباب القادمين من مستويات أقل نتيجة الهدر المدرسي مساهمة من القطاع في احتضان هؤلاء الطاقات وتوجيههم نخو مهن تضمن لهم الكرامة واندماجا أفضل في المجتمع.
وبذلك يكون مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل قد حقق أولى ثمار السياسة الملكية المتبصرة في تثمين الرأسمال البشري من خلال نجاح تلكم الاستراتيجية والاستجابة لمتطلبات السوق الاقتصادية من خلال استقطاب الشباب والمساهمة في إدماجهم عبر تكوينات تلائم سوق الشغل واعتماد آلية جديدة تعتمد على المصاحبة والمواكبة بعد التكوين في مجال المهارات غير التقنية، مثل إعداد السيرة الذاتية والتحضير لاجتياز المباريات وورشات تفاعلية حول تدبير الوقت وتدبير فضاء العمل وغيرها من المهارات الحياتية المؤهلة لسوق الشغل، كما أن الخريجين الذين يرغبون في التوجه للتشغيل الذاتي ولديهم حس مقاولاتي، يواكبهم مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل من حاضنات الأعمال والمواكبة والمصاحبة مع مختلف الفاعلين في المجال المقاولاتي لإنجاح اندماج أفضل داخل المنظومة الاجتماعية والاقتصادية للمغرب الحديث، مغرب التحديات، لبلورة النموذج التنموي الجديد واستشراف أفضل للأجيال الصاعدة.
(*) باحث في التنمية الاجتماعية والشباب
#تثمين #الرأسمال #البشري.