تأملات في علاقة الأستاذ بالتلميذ

-إلى أستاذي الجليل: الحسين بن أحمد-

ما هي إلا أيام قلائل وتنقضي العطلة الصيفية فتعود المدارس والثانويات والجامعات ومعاهد التعليم العالي إلى نشاطها وحركيتها المعتادة، بغية الانخراط في لُجّة موسم دراسي جديد، ووقتها فقط ستطلّ برأسها الأشجان المصاحبة للدخول المدرسي والجامعي، من مسألة الاكتظاظ ومشاكل تسجيل الوافدين الجدد، والتحاق الأساتذة من عدمه، مرورا بمعضلات التنقل والتنقيل وتداعيات حركية الأطر التربوية والإدارية، وصولا إلى إشكالات الكتاب المدرسي ووضعيته في المكتبات. هذا دون أن ننسى بطبيعة الحال مشاكل مؤسسات التعليم الخاص ونزاعاتها مع آباء وأولياء التلاميذ، والتي استعرّت في الآونة الأخيرة عقب ظهور فيروس كورونا وما خلّفه من انعكاسات سلبية على المشهد الدراسي ككل.

عموما يمكن القول إن مشاكل تعليمنا ودخولنا المدرسي أكبر من أن يحيط بها مقال أو حتى كتاب برمته، لكن ما يسترعي الانتباه هو التساؤل التالي:

في خضم الحديث المتناسل عن إصلاح التعليم، هل تمّ بجدية التفكير في علاقة الأستاذ بالتلميذ، باعتبارهما الركن الركين في منظومتنا التعليمية والتربوية؟ هل انكب المختصون من علماء التربية؛ والنفس؛ والاجتماع على إنجاز دراسات في هذا الباب قصد الوقوف على طبيعة هذه العلاقة، وما أصبحت تطرحه من إشكالات خطيرة باتت تهدد الصرح التربوي والقيمي والمعرفي الذي شادته المدرسة المغربية على مدار عقود ممتدة من الزمن؟

إن ما يبرر وجاهة مثل هذه الأسئلة هو واقع العنف الذي أصبح يتسيّد الفضاء المدرسي وهو عنف ما فتئ يتنامى إلى أن أصبح ظاهرة من الظواهر السائدة بالمدارس والثانويات، إذ دلّت الكثير من الوقائع والأحداث على أن الأستاذ أصبح ضحية للعنف التلاميذي سواء أكان عنفا ماديا أو حتى معنويا، وهذا بالطبع يؤثر تأثيرا سلبيا على سمعة المدرسة أولا، وعلى عملية التحصيل الدراسي ثانيا، وعلى السلامة الصحية والنفسية لأطر التدريس من جهة. وهذا ينضاف إلى عوامل أخرى أدّت للأسف إلى تضرر الوضع الاعتباري للأستاذ، فلم يعد ذلك النموذج الذي يقتدي به التلميذ فيحترمه ويجلّه.

ما دعاني في الواقع لإثارة هذا الموضوع هو تدوينة أحد أساتذتي على صفحتي بـ”فيسبوك”، لم أره فعليا منذ أن درست على يديه مادة اللغة العربية بمستوى السنة الثانية إعدادي عن الموسم الدراسي 1982-1983. قرابة أربعين سنة من الغياب. عثر أستاذي صدفة على إحدى مقالاتي المنشورة ببعض المواقع الإلكترونية فكتب إليّ يقول:

“لم أتوقف طيلة السنين الماضية عن تقصي أخبارك وتتبع نشاطك الثقافي. أتمنى لك التوفيق دائما”.

آلة النسيان لم تمح من ذاكرتي ولا من مخيلتي صورة أستاذي ذاك، كان طيفه يزورني بين الفينة والأخرى، أستحضر أقواله ونصائحه. من خلال صفاته سأرسم لكم صورة الأستاذ في الماضي (حقبة الستينات والسبعينات)، وهي صورة تصدق على كل أساتذة ذلك الجيل بنسبة كبيرة جدا:

“كان متسامحا وحازما في آن، حسن الهندام، خفيف الظل، منه تعلمت حب العربية وآدابها، لم يبخل علينا لا بعلمه ولا باجتهاده. صقل معارفنا ولطالما حثّنا على المطالعة وصاحبة الكتاب، لم يحدث ولو لمرّة واحدة أن عنّف أحدنا أو استفزّه بكلمة أو حركة. نزيه وشريف، لم يُحاب أحدا ولم يختصّ أيا كان بمعاملة خاصة. تعلمنا منه الشيء الكثير وستظل صورته مرسومة في ذاكرتي وعالقة في وجداني حتى أُورى الثرى”.

كل ما قد أدبّجه من كلمات عن أستاذي ومن خلاله عن كل أساتذتي الذين تتلمذت على يديهم، لا ولن يوفهم حقهم مهما قلت ومهما سأقول.

الأكيد أنّ سوق العلم ظلت رائجة عند العرب والمسلمين فأنجبت لنا علماء أجلاء، استطاعوا أن يسهموا إسهاما فعالا في تحقيق التقدم وإثراء الحضارة الإنسانية. حدث ذلك بالطبع حين عرفنا قدر الأستاذ وحفظنا له مكانته.

– أنت أستاذي، سيدي وأنا عبدك. ألم تقل العرب قديما: “من علّمني حرفا صرتُ له عبدا”؟ ألم يشتر بعض أسرى بدر حريتهم مقابل تعليمهم المسلمين القراءة والكتابة، بحسب ما اشترطه عليهم معلّم الانسانية وهاديها سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؟

أنت أستاذي، شيخي وأنا مريدك. ألم يقل الشيخ الأكبر: “من لا شيخ له فالشيطان شيخه؟”.

سأبجّلك وأحترمك وأقدرك وأحبك وأتخذك قدوة لي، وسأنفذ وصية أمير الشعراء شوقي:

قم للمعلّم وفّه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا

على قدر الأستاذ يكون التلميذ، ومهما حقّق التلميذ من نجاحات فالفضل الأكبر يعود لأستاذه وفي نهاية المطاف: لولا الأستاذ لَمَا كان التلميذ. ذلك درس وعاه الإنسان قديما وحديثا، في الشرق كما في الغرب، فهذا الفيلسوف والروائي الكبير ألبير كامو لم يفته حين فاز بجائزة نوبل للآداب أن يعترف بالفضل لذويه: كتب لأستاذه لوي جيرمان يقول:

“عزيزي السيد جيرمان،

تركتُ الضوضاء التي أحاطت بي كل هذه الأيام تخمد قليلا قبل أن آتي لأحدّثك قليلا من كل قلبي. لقد تلقيتُ مؤخرا شرفا رفيعا لم أسعَ إليه ولم أَطلُبه. لكني عندما علمتُ بالخبر، كان أول من فكرتُ فيه بعد أمي هو أنت. بدونك، بدون تلك اليد العطوفة التي مددتها إلى الطفل الصغير المسكين الذي كُنتُه، بدون تعليمك، والاقتداء بك، لما حدث شيءٌ من هذا. لا أجعل من نفسي كائنا بحجم الدنيا بهذا الشرف الذي نلتُ، لكنّه على الأقل فرصة لإخبارك بما كنتَ، وما زلتَ عليه، بالنسبة لي، ولِأؤكد لك أن كَرَمَ جهودك وعملك وقلبك الذي كنت تبذله لا يزال على قيد الحياة في أحد صغارك الطلبة، الذي، على الرغم من عمره، لم يتوقف عن كونه تلميذا ممتنا لك.

أعانقك بكل قوتي.

ألبير كامو”.

في البدء والمنتهى ليس لنا غير العلم والتعليم طريقا أوحدا، كي نبني به وبفضله حداثتنا ونحقق تنميتنا ونصون أجيالنا ونرتقي بوطننا، ولذلك فنحن مجبرون أكثر من أي وقت مضى على الانهمام بقضاياه ومشاكله.

#تأملات #في #علاقة #الأستاذ #بالتلميذ

زر الذهاب إلى الأعلى