التخطيط العُمراني وانعكاساتُه في سوق الأربعاء

التخطيط العُمراني وانعكاساتُه في سوق الأربعاء

أسامة الصغيرالأحد 24 يوليوز 2022 – 09:52

التشكُّـل التاريخـي

يَبلُغ التمدينُ في سوق الأربعاء قُرابة 120 سنة، ففي سنة 1906 دخل السيد ابْواسي من مدينة طنجة الدولية ليَستقِرَّ في المدينة بعد نهاية عملِه الديبلوماسي، اشترى بعضَ الأراضي من القائد الشرقاوي المُتوفَّى سنة 1912. فتح الوافدُ الفرنسي أولى الاستثمارات العصرية التمدينية في المدينة، مثل سِلسلة الإنتاج المُتَّصِل التي ضَمّتْ مطحنةً ومَخبزة عصرية، حضائرَ لتربيةِ الأبقار، وإنتاج أنواع المُشْتَقّات. وبوصول الحماية الفرنسية الرسمية، ظهرتْ بَوادِرُ البنايات العصرية من الطُّوب الأحمر والإسمنت والقرميد والحدائق المُحيطة بالمنازل ذات الشُّرفات والأَفارِيز. ابتداءً من تلك الفترة ظهرت المدينةُ الجديدة وصارتْ تُسمّى إلى اليوم “القَشْلة” ارتباطا بأنها كانت في الأصل مَساكنَ للضُّباط والجُنود الاحتياطيين الفرنسيين ثم لفائدة المُستَوطِنين الأوروبيين الجُدُد، وما رافَقَهم من مصالح إدارية مثل البريد، التجهيز، المدرسة الابتدائية، ثم الإعدادية الثانوية، ثم مدرسة البعثة كمُلحَقةٍ للثانوية، وكذا ظهور مَرافق الخدمات الاجتماعية والترفيهية مثل المسبح في الدعادع، الكنيسة، حديقة التجارب لإنتاج الزُّهور، الفُندق الكبير، فُندق فرنسا، السوق البلدي / المارشي العصري، الماخور المُنظَّم بحي التقدُّم قبل انتقالِه بشكل عشوائي إلى حي السلام/ كَلّيطو واندثارِه لاحقا، ملاعب رياضية مختلِفة أبرزُها ملعبُ التِّنس، الكرة الحديدية، محطة القطار، السينما / النهضة وغيرها من الفضاءات.

في مُقابل ذلك كان الأهالي من السُّكان ما وراءَ خَطِّ السكة الحديد، أي ما وراء المدنية، دَواوير: التْفاوْتِيّة، نِسبَةً إلى مُؤسِّسه الأول المَكّي اتْفاوتي، وتَطوَّرَ لاحقًا إلى حي السلام، أولاد بن السبع، والأًصَحُّ أنه أولاد أبو السبع، نِسْبَةُ إلى وَلِيٍّ صالح من شُرفاء الجنوب المغربي كان يَمْلِكُ سَبُعا مُرَوَّضً حسب المَرْوي الشفهي الشعبي، دوار أولاد حمّاد، نِسبَةً إلى إحدى فُروع قبائل بني هلال، ويُعتَبَرُ أولَ نَواة سُكّانية بالمدينة وأقدَمَها هناك حيث جَرَتْ أطوارُ مَقْتَلَةِ حزب الاستقلال في حَقِّ أشبال وشباب حزب الشورى والاستقلال أواخر سنة 1956، وفي الطَّرَف الجنوبي من المدينة كانت نواةُ دُوار اسِيّاح وهو في أصلِه بقايا مُنْدَثِرة من جيشِ عبيد البُخاري الذين وطَّنَهُمْ المولى إسماعيل في مناطق مُتَفَرِّقة من البلاد، وقد اشتَهر منهُم لاحقا القائدُ البْرُوزي مُمَثّلُ المخزن السلطاني في المنطقة. بهذا التقطيع والتخطيط العُمْراني تَشكَّلت الجُغرافيا الأربعائية، مركزٌ (سُونْطر) وهوامش مُحيطة تَحُومُ حولَه، تُسْدِي بعضَ الخدمات والسُّخْرة نَهارا لدى أهل المركز في “القَشْلة”، ثم تَؤُوب مساءً إلى مَساكِنِها البسيطة، ولم يكُن نَصيبُهم في الضّفة الأخرى من المَرافق إلا سجن (بِيرُو اعْرابْ) ومَقرُّ المحكمة. نُلاحِظُ أن خطَّ السكة الحديدية الذي انطلقتْ أشغالُه منذ سنة 1913، وُضِع ليكون خَطًاّ فاصِلا بين مركزٍ مَديني عصري، وهامشٍ مُتأخِّرٍ يُعَمِّرُه مُواطنون من درجةٍ ثانية.

الواقـع في ظل الاستقـلال

بدخول الإدارة المغربية حَيِّزَ التنفيذ التدريجي خلال عمليةِ مَغْرَبَةِ الأُطُر، صدر ظهيرٌ شريف بأول تقسيمٍ تُرابي للمجال المغربي، بَوَّأَ سوقَ الأربعاء مَرتبةَ جماعةٍ حضرية / بلدية سنة 1958. لكن المُلاحَظُ أن هذا المجال الجغرافي لم يَتقدّمَ بالقياس إلى مُرور 64 سنة على تَصنِيفه كمجالٍ حضري. الملاحظ كذلك أن التخطيط العُمراني في هذه المدينة خلال الاستقلال لم يَختلف كثيرا عن سابِقِه في ظل الإدارة الاستعمارية. لا يزال خطُّ السكة الحديدية حَدًاّ فاصِلا ما بين أبناء المدينة الواحدة، مُسَبِّبا جُرْحًا مَفتوحًا وغائِرا في الهوية وإحساسِ المواطَنة المحلية. استمرَّت المُقارَبة التُّرابية في تركيزِ مختلف المَرافق الإدارية والمصالح الاجتماعية في القَشْلة، وهو ما يؤدي إلى استمرار الذهنية الانقسامية ما بين العسكري الرسمي وما بين المدني الشعبي، وإنْ بشكلٍ لاشعوري، واستمرار النَّظرة الاسْتِنْقاصِية بين سُكّان الجُغرافيا المحلِّية الواحدة، بل إن عبقريةَ المسؤُولين كانت أَشَدَّ قسوَة عندما أضافتْ إلى خَطٍّ السكة سورا عظيما واستزادَتْ من المساحة الهائلة التي تُغطّي حوالي 26 هكتارًا تَقْصِمُ المدينةَ نِصفَين من الجنوب حتى الشمال طولا وعَرْضا، مُتَسَبِّبَةً في واقعٍ جغرافي وهوياتي مَشْروخ: ضفّةٌ شرقية وضفّةٌ غربية، مُواطِنٌ في المركز لم يَسْبِـقْ أن زارَ أو عَـرَفَ ما يوجدُ خلفَ السِّكّة والسُّور، لأن كلَّ ما يحتاجُه يوجد بقراراتٍ رسمية في جانبه الجغرافي. إن أبسط وأعمقَ تعريفٍ للمُواطَنة يعني الاهتمام بمجالِ العيش المُشتَرَك، لكن كيف يمكن لجُغرافيا أن تكون مدينةً في ظلِّ غيابِ وحدةٍ عُضوية وهويةٍ مَجالية واحدة لسُكّاِنها، وفي ظلِّ غيابِ الإحساس بانتماءٍ جماعي لأرضٍ لها ماض وحاضر ومستقبَل مُشترَك؟

واقِـعُ المدينـة

الواقع نفسُه يَزدادُ تكريسا، إذْ أنَّ حوالي ثَلاثة أرْباع الساكنة توجد في الجهة الشرقية للمدينة، بينما ثلاثةُ أرْباع المَرافق العمومية والخدمات الإدارية والاجتماعية والتمدِينية توجد في الجانب الغربي من المدينة، وهي حركةٌ مُعاكِسَةٌ تماما للنسيج الاجتماعي، تسيرُ ضِدَّ مفاهيم القُرْب، اللاتركيز واللامركزية، والديمقراطية التشارُكية، والحكامة المحلية، والمُواطَنة. كأنها مدينةٌ تسيرُ بسُرْعَتَيْنِ مُتناقِضَتَيْنِ، إيقاعُ الشرق وإيقاعُ الغرب، نَشَاز صارِخ تَنْعَدِمُ فيه هارْمُونِية المُواطَنة المحلية.

بحثا عن حَلٍّ، سارعَ المكتبُ الوطني للسِّكَكِ خلال العَشر سنوات الأخيرة إلى ربط الضِّفَّتَين بعددٍ من الجُسور والقَناطر التي لَوْ طُرِحَتْ أمام طفلٍ كسولٍ في الهندسة خلال الإعدادي لاسْتَنْكَرَها، هي ترقيعاتٌ ظاهرةٌ للعَيان يُسَمِّيها المُهندِسون مُنْشآت فَنّية. مُقابل هذا الواقع المُرَكَّبِ، وخلال ماراثونٍ من الاجتماعات واللقاءات مع مختلف الجهات الإدارية محليا وإقليما ومركزِيا سَعَتْ فعالياتُ المجتمع المدني إلى الترافُع بكل الأشكال من أجل حَلٍّ سليم ومُواطٍن، لكنها ظلتْ مُعْضِلَةً مُعَلَّقة تَتَسَبَّبُ في واقعٍ لا يَخدُم مصلحةَ الطَّرَفَيْنِ حتى اليوم. ساكنةٌ تَفتقد إلى وَسَطِ مدينةٍ يَضمنُ تواصُل الحركة المدنية ارتقاءً بالعقلية من مُستوى البلدة إلى الأُفُق المديني، ويَضمنُ الديناميةَ الاجتماعية واستمرارَ الدورة الخَدَماتية والاقتصادية للمَتاجر والمقاهي والمَحَلات و”القيساريات” وغيرها، فرِحلَةُ العودة إلى المساكن مساءً مَحْفُوفَةٌ بمخاطرِ ذلك الخَلاء المُظْلم الجاثِم على ليلِ المدينة الطويل بأرضيةٍ مُهْتَرِئة غير مُسْتَوِيَةٍ، ومُوحِلَةٍ خلال وقت الأمطار، بينما يَعْبُرُ القطارُ سِكّةً يَعبُرُها آلافُ المُشَاةِ يوميا، وفي المساء تراهُم كالأشباح.

الرِّهـانُ الجماعـي

لا بد أن تكون قِيَمُ المُواطَنة هي الفاصلُ لا السكةُ ولا الأسوارُ ولا الأسْيِجَةُ الإسمنتية، لا بُدَّ أن يكون صوتُ الحَكامة هو الحَكَمُ، فبتدبيرِ الاختلاف تَتَحقَّق الديمقراطيةُ التشارُكية. من هنا يكون الاقتراحُ الأول: اعتمادُ نَفَقٍ تحت أرضي للقطار من المَدْخل إلى المَخْرج إذا سمحتْ بذلك خصائصُ التُّربة وطَبَقاتُ الأرض، وبالتالي استثمارُ المساحة الفَوْقية في شكلِ مساحاتٍ خضراء، واجهات تجارية كُبرى تَفْتَقِرُ إليها المدينةُ، مَلاعب رياضية، أي خلقُ منطقة عُمرانية رابطة. الثاني: الإبقاءُ على محطّة القطار كما هي، مع استثمارِ وتَعبِئة الرصيد العقاري الشاسِع المُحيط بها، وجَعْلِه في خدمةِ الكثير من المشاريع والأَوْراش التنموية ضِمْنَ المُخَطَّط الاستراتيجي للتنمية المُندمِجة والمُسْتدامة الذي يَرعاهُ صاحبُ الجلالة، وهي مشاريعٌ وأوراشٌ تَعَثّرَتْ أو تَرَقَّعَتْ أو أُهْدِرَتْ بسببِ غيابِ الوِعاء العقاري المُلائِم.

سنكون يوما ما مُواطِنين بهويةٍ مُتَكافِئة وتنميةٍ محلية بإيقاعٍ مُشتَرَك، وستكون الأرضُ مدينةً حين يَسقُطُ سورُ الفَصْلِ ويَلْتَئِمُ جرحُ الهوية. يوما ما ستكون هذه الأرضُ مدينةً.

الإدارة المغربية المكتبُ الوطني للسِّكَكِ سوق الأربعاء

#التخطيط #العمراني #وانعكاساته #في #سوق #الأربعاء

زر الذهاب إلى الأعلى